بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على خير المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين, وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ؛ قال تعالى: { وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ 35} سورة البقرة.
{وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ 19} سورة الأعراف.
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى 120} سورة طه.
عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : [لما قال الله عز وجلّ لآدم : {اسكن أنتَ وزوجُك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين} ، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة ، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير ، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم ، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر : والفقم جانب الشدق - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه ، فخرج إليه فقال : ( يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) [سورة طه : 120] يقول : هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل ، أو تكونا من الخالدين، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة ، لما كان يقرأ من كتب الملائكة ، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر ، فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدمت حواء فأكلت ، ثم قالت : يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة] (1).
إن غالبية المقالات والمُحاضرات التي يدونها ويُلقيها أهل العلم والدعوة هي في مُعظمها تنصب حول بيان سيل الفتن والمعاصي الذي يجتاح هذه الأمة في زمانها الحاضر, وذلك بغية إيقاظ وعي أبناء الأمة وتحذيرهم من مغبة الوقوع في هذه الفتن والمعاصي, المتفشية في واقع حياتهم, وفي هذا المقال والبحث فإنني سأرجع إلى الوراء كثيراً لأقف عند عتبة أول فتنة ومعصية وقع بها الإنسان, وهي معصية أول البشر آدم وحواء – عليهما السلام-, وإن محرك الفتنة والقائد إلى ارتكاب المعاصي كان ولا يزال هو عدو الله إبليس وآله –عليهم لعنة الله-, وما فعله إبليس مع أول البشر من استفزاز وخِداع ليخرجهم من النور إلى الظُلمة, لا يزال يصنعه أتباعهُ الشياطين مع بني البشر أجمعين, لذا فإننا إذا تدبرنا في أول فتنة ومعصية أوقع بها الشيطان آدم وزوجه, فإننا لا بُد سوف نصل إلى فهمٍ عميق لأساليب الشيطان وطُرقه في التأثير على بني الإنسان.
قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا 82 وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا 83} سورة النساء.
[ومعنى قوله : ( يستنبطونه ) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها] ابن كثير.
وسوف يتضمن هذا البحث بيان شامل لمسائل تتعلق بسكن آدم وزوجه في الجنة, وبعض العِلل والنتائج المترتبة على معصيتهم والتي من شأنها دفع العجلة باتجاه خروجهم من الجنة.
ونظراً لأن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء –عليهما السلام- كانت هي حجرُ العثرة في طريق بقاءهما في رغد الجِنان, وبالتالي هبوطهما إلى الحياة الدنيوية الأرضية التي تشكل مزيجاً بين هنيء العيش ونكِده, وطِيبَهُ وخُبثَه, فإن محور التركيز في هذا البحث سيكون مُنصباً على حقيقة هذه الشجرة وذلك من ناحيتين, أولهما أن آدم وزوجه عصيا أمر الله بالأكل من ثمار شجرة معينة, وهذا هو المشهور والمنقول عن علماء السلف, أو أن لفظ (الشجرة) الوارد في القرآن هو مجرد رمز وكناية عن الفعل والمعصية الحقيقية التي ارتكبها أبوا البشرية – عليهما السلام-, وهذا ما سأحاول شرحهُ وبيانهُ في هذا المقال.
قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما (شَجَرَ) بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً 65} سورة النساء.
سكن آدم وحواء الجنة والعِلة المتعلقة بإخراجهما منها
قال تعالى: { وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}.
قال أبو جعفر الطبري: [أما الرَّغَد ، فإنه الواسع من العيش ، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه. يقال : أرْغد فلان : إذا أصاب واسعًا من العيش الهنيء].
لقد اختلف العلماء في الجنة التي اسكن الله فيها آدم وزوجه, أهي في السماء أم في الأرض أم بين ذلك؟ وحاصل الخلاف فيها على أقوال: أنها جنة المأوى, أنها جنة سوى جنة المأوى اخترعها الله لآدم وحواء, أنها جنة من جنات الأرض, التوقف في أمرها وتفويض علمها إلى الخالق عز وجل.
وبصرف النظر عن مكان هذه الجنة في السماء أو في الأرض, فإن ما دلت عليه آيات القرآن أن الله الرحمن قد اسكن آدم وزوجه في جناتٍ وعيون, وزروعٍ ومقامِ كريم, ونعمةٍ كانوا فيها مُتفكهين, كما قال سبحانهُ في قوم فرعون بعد خروجهم وغرقهم في اليم: {فأخرجناهم من جناتٍ وعيون 57 وكنوز ٍ ومقامٍ كريم 58 كذلك وأورثناها بني إسرائيل 59} الشعراء.
وقد تعهد الله لآدم وحواء بتمام ودوام النعمة في هذه الجِنان حتى لا يترك لهما حُجة ً على اقتراف المعصية, قال تعالى لآدم: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى 118 وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى 119} طه. تضحى: تصيبك الشمس بحَرِها.
يعني أن الله تكفلَ لآدم (عليه السلام) بالطعام فلا يجوع, وبالكسوة واللباس فلا يُصاب بالبرد, وبالشراب فلا يعطش, وبالظلِ والعروش فلا يُصاب بالحر.
ولقد اصطفى الله آدم – عليه السلام- ورضي عنه وأكرمهُ وزوجهُ باستهلال حياتهم بالسكن في جنته, واختصهم بهذه المنحة الإلهية والنعمة الربانية, فهو سبحانهُ قد خلقهم بيده ويعلم صلاح تربتهم ونقاء سريرتهم, وأنهما مكتوبان عنده من أهل الجنة, ولكن هذا الحال لا ينطبق على جميع من سواهم من البشر من ذريتهم, قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أحْكَمُ الحَاكِمين 45 قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ 46 } سورة هود.
حيثُ أنهُ كان مكتوباً في علم الله ولوحه المحفوظ أنهُ سيكون من البشر الفاسقين المفسدين الذين لا يستحقون العيش الكريم ولو لساعة في كنف رب العالمين وفي جنتهِ التي كتبها لأصحاب اليمين المؤمنين, وإنما كثيرٌ على هؤلاء أن يعيشوا في الأرَضِيين مُبعَدِين ومطرودين من جوار رب العالمين إلى أن يصْلوا نار الجحيم, قال تعالى :{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 30} البقرة.
روى أبي دواد في صحيحه, عن مسلم بن يسار الجهني,أن عمر سئل عن هذه الآية : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } قال : قرأ القعنبي الآية ، فقال عمر : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عنها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : {إن الله عز وجل خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون . فقال رجل: يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار} (2).
وإن هذه الذرية البشرية من أهل النار هم الذين لم يُقدَر لهم أن تُصيبهم نفحات نور الله, فطغت الظُلمة على أنفسهم وعميت قلوبهم عن إبصار الحق فهم في ضلالٍ مُبين, عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- :{إن الله عز وجل خلق خلقه في ظُلمة ، فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ، فلذلك أقول : جف القلم على علم الله} صحيح الترمذي.
إذاً فإنهُ متى ما شرع الزوجان بالجماع, وسلكا طريق إنشاء الذرية, صار بقاءهما في الجنة ورغد العيش مهدداً ومعرضاً للزوال, لأن ما سيبذرهُ آدم وتحملهُ حواء في بطنها قد يكون من تلك الطبعة النارية من الذرية, ومن الخِلقة الضالة الظلامية, ومثلُ هذا الإنسان إنما يكون مقامهُ وسكنهُ في الأرض ليُفسد ويسفك فيها الدماء كما دلت على ذلك الآيات الكريمات: {إني جاعلٌ في الأرض خليفة..}, وقد كان هذا الحوار الذي دار بين الله ذي الجلال وملائكته قبل أن يُعَلِمَ الله آدم الأسماء ويأمر الملائكة بالسجود لهُ ويُسكنهُ الجنة.
وكما جاء في الحديث فإن الأرض هي جنةُ الكافرين من البشر وأرقى مقام يُسكِنهم فيه الرحمَن, عن أبي هريرة -رضي الله عنهُ- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} صحيح مسلم.
ولم تمهل الأيام الأبوان آدم وحواء كثيراً قبل أن يشهدا بداية الإفساد المجبول عليه كثيرٌ من خلق الله من ذريتهم, وصِدْق ما كانت قد تنبأت به الملائكة, وذلك حين قتل الحسد نفس ابنهم قابيل من أخيه هابيل على ما اختصهُ الله به من العطاء والقُربِ والقبول, فعزم على قتلهِ وسفك دمه فكانت أولى جرائم البشر, وعلى طريق قابيل سار الكثير من بني آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال تعالى: {واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر قال لأقتلنك, قال إنما يتقبل الله من المتقين 27} البقرة.
وهكذا فإنه بعد أن يعرف ويجرب آدم وحواء السلوك الذي يتمخض عنه تكاثر جنسهما البشري, فإنهما سوف يصبحا واقفين على عتبة الخروج من الجنة, لأنهُ لا يمكن لذرية فاسدة أن تنبتُ وتخرج في الجنة التي صنعها الله لمن ارتضى من عباده, وأن تخلد فيها إلى الأبد, ولكن حكم الله الأزلي قضى بخروج أدم وزوجه من الجنة الرغيدة بالأمن والرزق والهناء, وهبوطهما إلى الأرض الزهيدة بما فيها من نكدٍ وكَدٍ وعناء, ولتكون الخلافة وخروج الذرية وتناسلهُا كلها صالحها وطالحها على هذه الأرض, فيجعل الله الصالحين رُسُله وحُجَتهُ على بني جنسهم من البشر, وشهداء عليهم, ومُبشرين للمؤمنين, ومنذرين للمفسدين من سوء العاقبة, قال تعالى:{ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا 45 وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا 46 وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا 47 وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا 48} سورة الأحزاب.
وليثيب الله المؤمنين الصابرين المُحتسبين فيدخلهم جنة النعيم خالدين لا يحول حائل بين سكنهم وبقاءهم فيها إلى أبد الآبدين, وأما الكافرين فإنه يُمتعهم في جنتهم الأرضية أيام وسنين ثم يجعل مرجعهم إلى نار الجحيم في العذاب خالدين, { أفرأيت إن متعناهم سنين 205 ثم جاءهم ما كانوا يوعدون 206 ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون 207 وما أهلكنا من قريةٍ إلا لها منذرون 208 ذكرى وما كنا ظالمين 209} سورة الشعراء.
إذاً فإن شجرة الذرية هي العلة الأساسية المرتبطة بإخراج الزوجان آدم وحواء –عليهما السلام- من حياة الجِنان في كنف الرحمَن, وذلك لما تحملهُ هذه الشجرة من ثمار فاسدة لا يمكن إصلاحها, ولا يمكن نباتها إلا في الأرض, وعليه فإن المعصية التي ارتكبها آدم وحواء والشجرة التي آكلا منها لا بد أنها مرتبطة بمسألة النسل والتكاثر.
ولكن كيف يمكن لآدم وحواء –عليهما السلام- إنشاء الذرية؟ وكيف لهما أن يجتنبا ذلك؟ وما علاقة هذا ڊِ(الشجرة)؟
إن إنتاج الذرية البشرية وإخراجها كما هو معلوم يتحصل بالنكاح, فيتجرد الزوجين, ويلتقي الخِتانين, وتقع نطفة الرجل في رحم المرأة, فإذا شاء الله جعل من ذلك النكاح واللقاح مولود.
وفيما يخص أول زوجان من بني الإنسان آدم وحواء – عليهما السلام- فإنهما كانا لا يزالان يعيشان في شبه أميةٍ جنسية ولم تتحقق عندهما بعد أغراض الحياة الزوجية, وعلى رأسها الجِماع المؤدي إلى الإنجاب والتكاثر, إذ أنه بحسب ما دلت عليه الآيات والروايات فإنه لم تظهر لهما عوراتهما ويعرفاها إلا عند إتيان الخطيئة, قال تعالى: { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا } [الأعراف,20]. سوءاتهما: عوراتهما, وسميت سوءة لأنه يسوء صاحبها انكشافها من جسده.
حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول: { يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } ، [سورة الأعراف : 27]. قال: (كان لباس آدم وحواء عليهما السلام نورًا على فروجهما ، لا يرى هذا عورة هذه ، ولا هذه عورة هذا. فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوءاتهما) (3).
وعن أبي بن كعب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {كان آدم كأنه نخلةٌ سَحُوق –طويلة جداً- ، كثيرُ شعر الرأس ، فلما وقع بالخطيئة بدت له عورته ، وكان لا يراها ، فانطلق فارًّا ، فتعرضت له شجرة فحبسته بشعره ، فقال لها : أرسليني! فقالت : لست بمرسلتك! فناداه ربه : يا آدم ، أمنِّي تفرّ ؟ قال : لا ولكني استحييتك}(4).
وعن ابن عباس في قوله: (ينزع عنهما لباسهما) ، قال : (كان لباسهما الظفر ، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما ، وتركت الأظفار تذكرة وزينة) (5).
وإن كون آدم وحواء –عليهما السلام- كانا لا يعرفان ما هي العورة لأنهما كانا مكتسيان بلباس ٍ من ظُفرٍ أو نور, فإن هذا لا يعني بالضرورة أنهما كانا لا يستمتع أحدهما بالآخر ويبلغان النشوة المرجوة كزوجان خلقهما الله واسكنهما في الجِنان, ولكن الظاهر هو أن استمتاعهما هذا كان ممارسةً دون المباشرة في الفرج, والتي تتطلب نزع اللباس.
وهكذا فإن آدم وحواء –عليهما السلام- كان يلزمهما بدايةً أن يأتيا ما نهاهما الله عنه لتنكشف لهما عوراتهما, ومن ثُم وبعد انكشاف عوراتهما فإن إمكانية النكاح المؤدي إلى الإنجاب تصبح واردة.
ولكن ما هي المعصية التي ارتكبها آدم وحواء وأدت إلى انكشاف عوراتهما؟
بحسب ظاهر النص القرآني, وبالرجوع إلى روايات العلماء والمفسرين, فإن انكشاف عورة آدم وحواء كان بعد أكلهما من ثمر الشجرة التي نُهيا عنها, قال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف,22].
قال الطبري في تفسيره: [فلما ذاق آدم وحواء ثمر الشجرة ، يقول : طعماه (بدت لهما سوءاتهما) ، يقول : انكشفت لهما سوءاتهما ، لأن الله أعراهما من الكسوة التي كان كساهما قبل الذنب والخطيئة ، فسلبهما ذلك بالخطيئة التي أخطآ والمعصية التي ركبا (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ، يقول : أقبلا وجعلا يشدَّان عليهما من ورق الجنة ، ليواريا سوءاتهما].
الشجرة؟!
قال أبو جعفر الطبري: [والشجر في كلام العرب: كلّ ما قام على ساق.
ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم ، فقال بعضهم : هي السُّنبلة]. وقيل في روايات أخرى هي غير ذلك من أنواع الشجر.
ثم قال أبو جعفر تعقيباً على ما روي في تعيين الشجرة: [والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجَه أكلا من الشجرة التي نهاهُما ربُّهما عن الأكل منها ، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها ، بعد أن بيّن الله جل ثناؤه لهما عَين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها ، وأشار لهما إليها بقوله : " ولا تقربا هذه الشجرة " ، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطَبين بالقرآن ، دلالةً على أيّ أشجار الجنة كان نهيُه آدمَ أن يقربها ، بنصٍّ عليها باسمها ، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيٍّ رضًا ، لم يُخل عبادَه من نَصْب دلالة لهم عليها يَصلون بها إلى معرفة عينها ، ليطيعوه بعلمهم بها ، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضًا.
فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدمَ وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها ، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه ، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنَّى يأتي ذلك ؟ وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين ، وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك عِلمٌ ، إذا عُلم لم ينفع العالمَ به علمه، وإن جهله جاهل لم يضرَّه جهلُه به.] (6).
إن أقوال العلماء والأئمة الكِرام – عليهم الرضوان- في تحديد عين الشجرة, هي في مُعظمها منقولة عن كُتب السابقين من أهل الكتاب, وبشكل خاص التوراة القديمة,
خاصةً وأنهُ لا يوجد قول قرآني صريح أو حديث نبوي صحيح يوضح حقيقة هذه الشجرة, وفي ضوء هذه المعطيات والغموض الذي يكتنف هذه المسألة, فإننا نقفُ أمام خيارين, أولهما هو الأخذ بظاهر النص القرآني والتسليم بأن آدم وحواء –عليهما السلام- إنما أكلا من ثمر شجرةٍ دون تعيين لها, لعدم ورود ما يثبت ذلك, وقد كان من نتائج أكلهما من الشجرة أن نُزع عنهما لباسهما وانكشفت عوراتهما.
والخيار الثاني الذي سأطرحه في هذا المقال, والذي أجدُ له دلائل من آيات القرآن, هو أن معصية آدم وحواء –عليهما السلام- كانت فعلٌ آخر غير الأكل من ثمر شجرةٍ من النبات المعروف, وأن النص القرآني كَنَى عن معصية آدم وزوجه بلفظ (شجرة) لأسبابٍ سوف أسردها بالتفصيل في الفقرات القادمة.
وبموجب هذا الخيار الثاني فإني أرى أن نهي الله لآدم وزوجه بقوله لهما: {ولا تقربا هذه الشجرة}, قد يكون عن إقدامهما على هتك لباسهما ومحاولتهما التجرد من ثيابهما التي كساهما وستر أبدانهما بها, فهما يريان أن على أبدانهما كسوة ولباس خاص يسترها, والمسألة واضحة بالنسبة لهما ويملكان امتثال أمر الله فيها, والدليل على ذلك أن الشيطان إنما كان يسعى لاهثاً لحملهما على المعصية التي تُسفر عن انكشاف عوراتهما, وهذا يتأتى من بابٍِ أولى وبشكلٍ مباشر عن طريق نزع اللباس وهتك الستر. قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا…20}, وقال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 27} الأعراف.
وبعد أن نزع آدم وحواء لباسهما تحت وطأة الفضول الذي أثاره إبليس في أنفسهما لمعرفة ما تحتها, وانتهى الأمر بهما إلى ما انتهى إليه, وأصبح كل واحدٍ منهما ينظر إلى عورة صاحبه المكشوفة, عندها تذكرا نهي الله لهما عن نزع اللباس, وخشيا أن يناديهما وهما عُراة عاصيان لأمره, وكان اللباس الذي كساهما به الله من النور أو الظُفر أو غيره قد هُتك وذهب عنهما ولا يملكان لبسهُ من جديد, فهو من صنع الله وليس من صنع أياديهما, فعند ذلك أخذا بقطع أوراق من شجر الجنة, قيل أنها أوراق كبيرة من شجرة التين, وأخذا بتغطية مواضع العورة بهذه الأوراق, ويحاولا أن يصنعا منها مثل الثوب, وذلك حياءً من الله وجزعاً من أن يراهما وهما على الحالة التي نهاهما عنها من العُري والتكشف, قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ 22} الأعراف.
الحكمة في تورية المنهي عنه
إذا كان نَهْيُ الله لآدم وحواء هو عن نزع اللباس, فلماذا كنى الله عن ذلك في كتابه بقوله: {ولا تقربا هذه الشجرة}, ولم يذكر المنهي عنه بصفته المباشر, أي بقوله: (ولا تنزعا لباسكما)؟
بحسب اعتقادي فإن السبب لوصف المنهي عنه ڊ (الشجرة) بدلاً من ذكره بصفته المباشرة, هو لأن المنهي عنهُ - وهو هتك اللباس- يُمثل حلقة في سلسلة من الأفعال المتتالية التي ستترتب عليه, فكان إخفاءه لازماً للتنبيه على ما بعده.
أي أن الله عز وجل نهى آدم وحواء عن نزع لباسهما لا لمجرد أن تبقى عوراتهما مستورة, أو ليمتحن طاعتهما له بهذا الفعل, ولكنهُ سبحانه نهاهما عن خلع لباسهما لعلةٍ أبعد من ذلك, وهي أنهما متى ما نزعا لباسهما فإن كل واحد منهما سوف يرى عورته وعورة صاحبه وجسده المكشوف, وعند ذلك فإن الغريزة والرغبة الجنسية الكامنة في نفس هاذين الزوجين سوف تتملكهما وتقودهما إلى الشروع بممارسة تجربتهم الجنسية الأولى منذ خلقهما الله وهما عاريين, وتجربة الجِماع الأولى في تاريخ البشرية, وهذا الفعل هو مفتاح إنشاء الذرية وإخراجها, وكما بينتُ سابقاً فإن سكن الجنة مقصوراً حُكماً على آدم وحواء,{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}, وإن الدعوة لا تشمل أولادهما – ممنوع اصطحاب الأطفال-, لأن بني آدم هم كما ذكرت منهم أهل النار وأصحاب الجحيم المُبعدين أبداً عن جنة النعيم, عن أبي الدرداء – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: {خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى ، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر ، و ضرب كتفه اليسرى ، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم ، فقال للذي في يمينه : إلى الجنة و لا أبالي ، و قال للذي في كتفه اليسرى، إلى النار و لا أبالي} إسناده صحيح (7).
وهكذا فإن قوله تعالى لآدم وحواء: {ولا تقربا هذه الشجرة} هو كناية عن نزع اللباس وما يتبعه من فِعال تؤول نتائجها إلى إخراج الذرية, ولعل الباري عز وجل كنى عن هذه العملية كاملة ڊ(الشجرة), لأنها أعمال يتبع بعضها بعضاً ويتركب بعضها على بعض, كما تنبتُ وتركب ساق الشجرة على جذورها, وأغصانها على ساقها, وثمارها على أغصانها, والجذورُ في فعل آدم وحواء هي نزع اللباس, وهي المعصية الأساسية التي ارتكباها, وأما ثمرة فعلهما فهي الولد والذرية.
ومن الأسباب الأخرى للكناية بالشجرة عما ذكرنا من فعل آدم وزجه, هو أن الذرية التي هي ثمرة فعلهما هي أيضاً تشبه الشجرة, وذلك أن الذرية يخرج بعضها من بعض, ويتفرع بعضها عن بعض, وتتداخل أنسابها في بعضها كما تتداخل وتتشابك أغصان الأشجار, وأحياناً تنقطع بعض فروع هذه الشجرة كانقطاع نسب الرجل, بينما يستمر آخر في التمدد والتفرع وإخراج الورق والثمر إلى ما شاء الله.
ومنذ القِدَم استخدم المشتغلين في إثبات الأنساب طريقة التشجير وهي ما يُعرف اصطلاحاً ڊ(شجرة العائلة), ويُقال: فلانٌ من شجرة مُباركة, أي من أصل مُبارك (8), وتشجير نسب القبائل علمٌ له آدابهُ وأحكامه.
وإن الشجرة التي تضم البشر جميعاً هي التي يمثل الأبوين آدم وحواء جذورها, إذ أنهما أول البشر وأصلهم, بينما يمثل بَنِيهم على التوالي باقي أجزاء هذه الشجرة, ساقها وأغصانها وفروعها وأوراقها وثمارها.
وأخيراً فقد جاءت جملة: {ولا تقربا هذه الشجرة} معطوفة على قوله تعالى: {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}, وذلك أن معنى الجِماع المنطوي ضمنياً في لفظ الشجرة, يشبه الأكل من حيث أن كلاهما يُمثل ضرورة حيوية وغذاء للأبدان, والفرق بينهما هو أن الأكل سبباً في تزويد الجسم بالطاقة, والجماع هو سبباً في تفريغ الطاقة.
الذوق والأكل من الشجرة!
قال تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما} الأعراف,22. وقال سبحانه:{فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما} طه,121.
إن كُلاً من فعليْ (الذوق والأكل) محلهما وأداتهما (اللسان والفم), وكذلك فإن الرجل والمرأة إذا ما أرادا الجِماع فإنهما يستهلانه ويتخللانه بالتقبيل, والتقبيل كما الذوق والأكل محلهُ وأداتهُ (اللسان والفم).
* {فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما}
إن الحالة التي تقتضي أن تنكشف فيها عورة الرجل والمرأة في آن ٍ معاً هي وقت الجِماع, وفيما عدا ذلك فإنه لا يوجد ما يدعوا إلى انكشاف عورتهما معاً.
صيغة النهي (ولا تقربا)؟!
قال تعالى:{ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }.
هذه الشجرة والزنا
إن الصيغة التي نهى الله بها آدم وحواء عن إتيان الخطيئة بقوله لهما: {ولا تقربا هذه الشجرة}, تشبه الصيغة التي نهى الله بها عباده عن إتيان فاحشة الزنا, وهو البغِاء والمعاشرة الحرام, وهو من أعظم الكبائر, قال تعالى:{ولا تقربوا الزنا إنهُ كان فاحشةً وساء سبيلاً 32} الإسراء. يعني نهى الله عباده عن مُقاربته, ومُخالطة أسبابه ودواعيه, من خلوة وكلام ونظر ولمس وتعري ونحوه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: {ما من ذنبٍ بعد الشرك أعظم عند الله من نطفةٍ وضعها رجل في رحمٍ لا يحلُ له} (9).
وتصديقاً لما ذكرتهُ من تشابه صيغة النهي القرآني لآدم وحواء عن الشجرة مع صيغة النهي عن الزنا, فإننا نجدُ في السُنة النبوية وأقوال السلف الصالح صورة مماثلة لهذا التشابه, وذلك من خلال ما رواه جمعٌ من التابعين عمن سمع عبيد بن عُمير يقول: (قال آدم : يا رب ، خطيئتي التي أخطأتها ، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني ، أو شيء ابتدعتُهُ من قبل نفسي ؟ قال : بلى ، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال : فكما كتبته عليّ فاغفره لي. قال : فهو قول الله : " فتلقَّى آدم من ربه كلمات ") (10).
وتتشابه هذه الرواية التي تنص على أن الله إنما كتب الخطيئة التي اقترفها آدم قبل أن يخلقه, وأنه كان لا بُد مُدركها, مع الحديث النبوي الذي ينص على أن بني آدم مكتوب عليهم نصيبهم من خطيئة الزنا لا بد لهم من إدراكه, عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {كُتِبَ على ابن آدم نصيبه من الزنى, مدرك ذلك لا محالة, فالعينان زناهما النظر, والأذنان زناهما الاستماع, واللسان زناه الكلام , واليد زناها البطش , والرِجل زناها الخُطا, والقلب يهوى ويتمنى . ويصدق ذلك الفرج ويكذبه} صحيح مسلم.
إن الفعل والمعصية التي ارتكبها آدم وحواء تتمثل في نزعهما لباسهما, وإن نزع اللباس هو من دواعي الجِماع ومداخل الوقوع به, وإن الجماع إذا ما وقع بين آدم وحواء – عليهما السلام- فإنه لا يُعتبر خطيئة في حد ذاته, لكون آدم وحواء في حكم الله وتقديره زوجان من البشر يحلُ لهما إتيان ما فُطرا عليه من شهوة الجِماع, لذا لا يظن أحد أنني أريد القول أن آدم وحواء - بتشابه صيغة النهي لهما عن المعصية بصيغة النهي عن الزنا- هما مثل الزُناة – حاشهما الله عن ذلك-, وإنما وجه الشبه بين فعل (الجِماع) الذي ترتب على معصية الزوجان آدم وحواء ونزعهما لباسهما وبين فعل العُصاة من (الزُناة), يكمن في هيئة الفعل صفتهُ وشكله, والذي الغاية منهُ في كلتا الحالتين هي الاستجابة لنداء الغريزة وقضاء الشهوة, بينما يختلف الفعلان على وجه التمام ولا يتشابهان في الحُكم والمشروعية, وذلك أن الذي يأتي شهوتهُ في أهله يُؤجر ويكون مرضياً عند ربه, والذي يأتيها في الحرام يُأثم ويكون عاصياً لأمر الله مُنتهكاً لمحارمه.
وقد أغلظ الله عقوبة الزانيان في الدُنيا فجعل حدهما الجلد والتغريب لغير المُتزوجين, والرجم حتى الموت للمتزوجين, وهي من أقسى العقوبات.
هذه الشجرة ومجامعة الأزواج
{وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ولا تقربا هذه الشجرة}.
وتتشابه كذلك صيغة نهي الزوجان آدم وحواء عن فعل المعصية (ولا تقربا), مع الصيغة التي نهى الله بها الرجال عن إتيان زوجاتهم وحلائلهم من النساء وهم صائمون أو معتكفون, أو كانت المرأة حائض, أو أراد الرجل أن يأتيها في غير المأتى –في دبرها- قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ* هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِوَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ* وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ (فَلاَ تَقْرَبُوهَا) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 187}.
* الرفث إلى نسائكم: يعني مجامعة النساء. تباشروهُن: النكاح ودواعيه من تقبيل ومُعانقة ونحوه.
وقال سبحانه : {ويسألونكَ عن المحيض , قل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض , (ولا تقربوهٌنَ) حتى يطهُرن , فإذا تطهرنَ فأتوهُنَ من حيثُ أمرَكم الله . إن الله يحبُ التوابين ويحبُ المتطهرين 222} الآيتان من سورة البقرة.
وإن مثلُ ما أتاهُ آدم وزوجه من الجِماع - بعد معصية نزع اللباس- في الحُكم والمشروعية, كمثل جِماع الزوجان في الوقت الذي نهى الله عنه في أيام شهر رمضان, وهو فعل يُبطل الصيام ويوجب القضاء والكفارة معاً, وقد أغلظ الله الكفارة على اللذان يأتيان هذه المعصية, فجعلها إعتاق رقبة, فإن لم يستطع فكفارتهُ صيام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا.
وقد حرم الله على الرجل كذلك إتيان زوجتهُ وهي حائض, أو في المواضع المنهي عنها كإتيان المرأة في دبرها, وصاحب هذا الفعل ملعون, وحُكمه يصل إلى حد التفريق بين الرجل والمرأة وإنهاء حياتهما الزوجية.
لا تقربوا
وفيما عدا ذلك فإن صيغة النهي (لا تقربوا) لم تتكرر كثيراً في آيات القرآن الكريم, وجاءت فقط في النهي عن الفواحش, قال تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأنعام, 151], وفي النهي عن مال اليتيم, قال تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء,34], وفي قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون, ولا جُنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء, 43].
وسواس الشيطان بين الحقيقة والخِداع
* حدثنا ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : [أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها ، قال : لو أن خُلدًا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه، فأتاه من قِبَل الخلد] (11). فاغتمز: وجد عيباً يُؤتى من قِبَله.
قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى 120} طه.
إن في ظاهر وسواس إبليس وقوله هذا لآدم خِداع وإغراء له بفعل المعصية ليُخرجه من الجنة, ورغم أن إبليس شيطانٌ فاسق عن أمر الله, إلا أنهُ لم يكذب آدم الخبر بقوله: {شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}, وذلك أن الفعل الذي نهى الله آدم وحواء عن إتيانه في الجنة وهو نزع اللباس, ستترتب عليه وتُسْفر عنه الخطوات إلى الجِماع واللقاح, ومن ثم إنتاج وإخراج شجرة الذرية الآدمية, وكل البشر من بعد آدم هم أبناءه, ومن المعلوم أن الولد هو من يُخَلِد ذكر أباه, وبالتكاثر والتناسل يُحفظ الجنس ويُضمن له البقاء والاستمرارية, وإن الإنسان كائنٌ خالد مُخَلد إما في الجنة أو في النار.
وهكذا فإن شجرة الذرية والعائلة البشرية التي فيها تخليد ذكرى الأب آدم والجنس البشري هي (شجرة الخُلد), وإن كل ولد من هذه الذرية من قريب أو بعيد ومن كل جنس ٍ ولون وحتى قيام الساعة يُنسب إلى الأب الأول آدم, وهذا هو مُلك آدم – عليه السلام- الذي لا يبلى.
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: {وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث –.. فقال – أي الشيطان الذي قال لأبي هريرة- : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ، لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدقك وهو كذوب ، ذاك شيطان} صحيح البخاري.
* قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ 20} الأعراف.
عن ابن إسحاق قال : (حُدِثت : أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما ، أنه ناح عليهما نياحَة أحزنتهما حين سمعاها ، فقالا ما يبكيك ؟ قال : أبكي عليكما ، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما ، فقال : يا آدم هَل أدلك على شجرة الخلد ومُلك لا يبلى ؟ وقال : " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين ، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " . أي تكونا مَلَكين ، أو تخلدَا ، إن لم تكونا ملكين - في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه : " فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ ") (12) .
هنا وسوس الشيطان إلى آدم وحواء معاً, وفي قوله هذا خِداع وإغراء لآدم وحواء, وكذلك كذب وافتراء على الله عز وجل وقلب للحقائق, وذلك أنه ألقى في نفس آدم وحواء أن الله إنما نهاهما أن يأكلا من الشجرة كراهة أن يكونا مَلَكين أو خالدين, والحق هو عكس ذلك.
ولنبدأ بالكذبة الأولى وهي قول إبليس لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ}.
فطالما أن آدم وحواء لم يعصيا الله بنزع اللباس فهما عند الله كالملائكة, لأن الملائكة لا تعصي أمر الله, والملائكة ليس لها سوءة, ولا تُجامع, وهي مُطهرة لا تصيبها النجاسات المعنوية والحسية ولا تتناسل. وإن آدم وحواء باستجابتهما لنداء الشيطان وهتكهما لباسهما فإنهما سوف يعصيان أمر الرحمَن وهذه نجاسة معنوية, ثم أنهما سوف ينظران إلى أبدانهم ويعرفان أن لهما سوءة, وبعد انكشاف عوراتهم سوف يكونا مُعرضين للإصابة بالنجاسة البدنية والتي تشمل الحدثين الأصغر – كالبول والغائط - والأكبر – كالحيض والجنابة والنِفاس- , وبالتالي سوف يتبين لهما على وجه اليقين أنهما ليسا أبداً كالملائكة خلْقاً وخُلُقاً.
عن الربيع ، قال : وحدثني أبو العالية [أن منَ الإبل مَا كان أوّلها من الجن ، قال : فأبيحت له الجنة كلها - يعني آدم - إلا الشجرة ، وقيل لهما : " لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " . قال : فأتى الشيطان حواء فبدأ بها ، فقال : أنُهيتما عن شيء ؟ قالت : نعم! عن هذه الشجرة فقال : ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) [سورة الأعراف : 20] قال : فبدأت حواء فأكلت منها ، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال : وكانت شجرةً من أكل منها أحدث. قال : ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَث. قال : " فأزلهما الشيطان عَنها فأخرجهما مما كانا فيه "، قال : فأخرج آدم من الجنة] (13).
وأما قول إبليس لهما{أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}, فإنهما لن يبقيا خالدين في النعيم في كنف رب العالمين إلا بطاعة أمره, ولكن إذا عصيا أمر الله واتبعا نصيحة إبليس بالأكل من الشجرة فإنهما سوف يصبحان من المُخْرَجين.
وهكذا نجح إبليس اللعين سواءً أصدق أم كان من الكاذبين في إضعاف ثقة آدم وحواء بوعود رب العالمين, وأرضى شيئاً من أحقاده على آدم من خلال تسببه له بالإحراج والإخراج السريع والحزين من الجنة, وليهبط منها إلى الأرض دار العناء والكَبَد, بدلاً مما كان فيه من الهناء والرَغد.
عن ابن عباس قال: (كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، السنبلة . فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما ، وكان الذي وَارى عنهما من سوءايتهما أظفارُهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، ورق التين ، يلصقان بعضها إلى بعض. فانطلق آدم مولّيًا في الجنة ، فأخذت برأسه شجرة من الجنة ، فناداه : أي آدم أمني تفرّ ؟ قال : لا ولكني استحييتك يا رب ! قال : أما كان لك فيما منحتُك من الجنة وأبحتُك منها مندوحةٌ عما حرمت عليك ؟ قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. قال : وهو قول الله : (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) – أي إبليس أقسم بالله كذباً-. قال : فبعزّتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كدًّا. قال : فأهبط من الجنة ، وكانا يأكلان فيها رغدًا ، فأهبطا في غير حياة رغد من طعام وشراب ، فعُلّم صنعة الحديد ، وأُمر بالحرث ، فحرث وزرع ثم سقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم داسَه ، ثم ذرّاه ، ثم طحنه ، ثم عجنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلعْه حتى بُلِّعَ منه ما شاء الله أن يبلعَ) (14).
الطبيعة البشرية
قال تعالى: {ولقد عَهِدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد لهُ عزماً 115} سورة طه.
إن الله سبحانه وتعالى عالمٌ بمخلوقاته, خلق الملائكة من نور فلا تعرف الظُلمة والمعصية إليها سبيل, وخلق الجان من نار, فهي سريعة في الطاعة, وسريعة أيضاً في العصيان, وخلق الإنسان من طين, والطين من السهل تطويعها وتشكيلها إلى الطاعة أو المعصية. عن أبي هريرة رضي الله عنه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كل إنسان تلده أمه على الفطرة. وأبواه بَعدْ، يهودانه وينصرانه ويُمَجِسانه. فإن كانا مسلمين فمسلم. كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه، إلا مريم وابنها}. رواهُ مسلم في صحيحه.
وفي بداية خلقهما كان آدم وزوجهُ قريبين إلى طاعة الله واجتناب نواهيه, ثم بعد أن طال عليهما الأمد واستغرقا في نعيم الجنة, بدءا شيئاً فشيئاً ينسيا ما عَهِدَ الله به إليهما من الأمر, {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ }[الحديد, 16].
وبعد أن بدء إبليس مساعيه في فتنة آدم وزوجه, ومع اقتراب الشيطان الناري من هذه الطينة البشرية, فإنها أخذت تجف وتيبس حتى صار بإمكان هذا الشيطان كسرها, {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة, 74]. ولهذا فإن الله عز وجل حذر آدم وزوجه من الشيطان باعتباره أكبر عدو للإنسان, قال تعالى: {َنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف,22].
وبالقياس إلى طبيعة البشر وقابليتهم للنسيان وترك أوامر الرحمَن, فإنهُ لم يكن بالإمكان أن يتجنب آدم وحواء الوقوع في الخطأ والعصيان, وإلا لكانا مََلَكان.
ويخطأ بعض الناس بظنهم وقولهم: أن آدم وحواء –عليهما السلام- هما سبب حرمان البشر من العيش الرغيد في الجِنان.
والصواب هو أنهُ لو لم يُخطأ آدم وحواء وينزعا لباسهما لما قُدِرَ أن يكون لهما عقِبٌ من البشر حتى الآن, فكيف لآدم وحواء أن يحرموا ذريتهم من حياة الجنة, وإنشاء الذرية كما فَصَلت كان هو أحد أسباب خروجهم منها إلى الأرض!
وإنما هو أمرٌ قضاه الله الرحمَن قبل أن يخلق الإنسان, و لا جدوى من تأسف بني آدم على شيءٍ لم يكن مقدراً لهم إدراكه, وقبل أن يعكف بني البشر على معاتبة الأبوان آدم وحواء – عليهما السلام- على معصيتهم في الجنة, فلينظروا إلى سيل المعاصي التي هم آخذين بارتكابها ليلاً ونهاراً, سراً وعلانية, دون أن يكون في حسبانهم التوبة وطلب المغفرة من الله على هذه المعاصي, أسوةً بالأبوين الذين لم يسعهم أن يكونوا من العُصاة المُعاندين المتبعين لدروب الشياطين, قال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ 23} الأعراف.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {احتج آدم وموسى . فقال موسى : يا آدم ! أنت أبونا . خيبتنا وأخرجتنا من الجنة . فقال له آدم : أنت موسى . اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده ، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى . فحج آدم موسى} . وفي حديث ابن أبي عمر وابن عبدة . قال أحدهما : {خط}. وقال الآخر : {كتب لك التوراة بيده} صحيح مُسلم.
وتؤكد هذه الرواية على أنهُ لا ينبغي لأحدٍ من البشر حتى لو كان موسى ابن عمران – عليه السلام- بأن يذكر آدم – عليه السلام- بخطيئتهِ وأن ينسب إليه سبب عدم سكن ذريته في الجنة, فهو أمرٌ قدرهُ الله على آدم لا محالة ويفوق طاقتهُ على دفعهِ.
وأما نسبة آدم –عليه السلام- الخطيئة إلى نفسه, فهو من باب الاعتراف بالذنب والضعف الإنساني الذي اعتراه وزوجه.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: {يجمع الله تبارك وتعالى الناس. فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة . فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة . فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ! لست بصاحب ذلك . اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله . قال فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك . إنما كنت خليلا من وراء وراء . اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليما . فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول : لست بصاحب ذلك . اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه . فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم : لست بصاحب ذلك . فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم . فيقوم فيؤذن له . .وترسل الأمانة والرحم . فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا . فيمر أولكم كالبرق ، قال قلت : بأبي أنت وأمي ! أي شيء كمر البرق ؟ قال : ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح . ثم كمر الطير وشد الرحال . تجري بهم أعمالهم . ونبيكم قائم على الصراط يقول : رب ! سلم سلم . حتى تعجز أعمال العباد . حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا . قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة . مأمورة بأخذ من أمرت به . فمخدوش ناج ومكدوس في النار . والذي نفس أبي هريرة بيده ! إن قعر جهنم لسبعون خريفا} صحيح مسلم.
قال تعالى: {يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمَن ورضي له قولاً 109} طه.
ولما أن جاء الناس إلى آدم يوم القيامة يستشفعونهُ على الصراط حتى يُسلمهم الله فيعبرون إلى الجنة, فإنهُ إشفاقاً من ذلك الموقف العصيب, وخشيةً على ذريته من أن لا يكون خير شفيعٍ يرجونهُ, وإقراراً منهُ بأن من ولده من هم أكثر صلاحاً وقُرباً ومكانةً عند رب العالمين, فقد لاذ من ذلك كله بأن ذكَرَ نفسهُ بخطيئتهِ ليصرف الناس عنه تلك الساعة.
وإن الإنسان إذا ما أراد التهرب من مهمةٍ ثقيلة وشيءٍ يخشاهُ أو لا يرى نفسهُ أهلاً لهُ, اختلق الأعذار وتذرع بما فيه وما ليس فيهِ من النقائص, وذاك قول آدم عليه السلام لأبناءه: {وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ؟}, فهو حقيقةً لم يُخْرج إلا نفسهُ وزوجهُ من الجنة, ولم يكن مقدراً على الإطلاق أن يُنشأ ذريتهُ في الجنة, وقد شرحت ذلك في الفقرات السابقة.
وإنهُ – عله السلام- لم يجاوز الحقيقة بقوله: {وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم}, وقد كانت خطيئة أبيهم كما ذكرت هي نزع اللباس وتعدي حدود الله, وإن الذين سيتهاوون من أبناءه عن الصراط ويسقطون في النار فلا يدخلون الجنة وهم عنها مُبعَدين, هم الذين نزعوا لباس الحياء, وشقوا رداء طاعة الرحمَن, وماتوا وهم سَمَاعيين لوساوس الشيطان, فهؤلاء لن تنفعهم شفاعة الشافعين, ولا يهلك على الله إلا الهالكين.
دخول آدم وزوجه إلى الجنة من باب التكريم لا التخليد
قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة… 30},.., {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين 34 وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة…} البقرة.
بعد أن فرغَ الله من خلق خليفته المُنتظر في الأرض آدم – عليه السلام- وجعل الملائكة تسجد لهُ تكريماً وتعظيماً لشأنه, لم يكن الله ليعْقُب ذلك بإسكان آدم وزوجه في الأرض مباشرةً ليجدا فيها العناء والتعب, لأنهما سوف يستغربان من انتقالهما المُباشر وغير المُبرر من حضرة وعناية الله الرحمَن إلى الحياة الدُنيا, وسيظُنان أن الله ابتلاهُما في حياةٍ صعبة لا يستحقونها دون عقيدة ومنهج واضح, لذا فإن الله أتبعَ تكريمه لأول البشر آدم (عليه السلام) بسكن الجِنان, وتكفلَ به وزوجهُ وجعل أمر بقاءهما في هذا الرغد من العيش مرهونٌ باجتناب نواهيه, حتى إذا غلب الطبع الإنساني على قلبيهما ونسيا أمر الله ونهيه, لقنهم الرحمن الدرس الأول والأهم في بداية رحلتهم في الحياة, وعلمهم عقيدة الذنب والوقوع في معصيته, وأنها سبب زوال النِعم والخُسران والانتقال من حالٍ إلى حالٍ دونه, قال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم 53} الأنفال.
وهكذا فإن الجنة لم تكن لآدم –عليهم السلام- سوى استكمالاً لتكريمه والاحتفاء به في أول خلقهِ وحياته, وهذا من لطف الله وعنايته بآدم وزوجه, وتمهيداً لهما قبل أن ينتقلا إلى الأرض وجهتهم الرئيسية التي أراد الله أن يستخلفهم فيها ويُخرِجا فيها سائر ذريتهم, ليُثيب المُحسنين منهم ويدخلهم في جنات النعيم خالدين, ويُعاقب المُسيئين ويدخلهم في نار الجحيم خالدين.
وقد كانت الجنة بمثابة برنامج تأهيلي وتدريبي لآدم وحواء قبل استقرارهما في الأرض, ليتعلما معنى الطاعة ويعرفا الفرق بينها وبين المعصية, وليعرفا أن لهم عدوٌ مُبين مُتربص بهم ساع ٍ وراء فتنتهم عن النعيم المُقيم, وهو إبليس اللعين.
التعري.. الخطيئة الأولى وقاصمة الظهور
قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 26} الأعراف.
إن لباس بني آدم دينهُ, وزينتهُ عقلهُ, وإن اتخاذ الملابس والتزيُن وستر العورات بها هو من مظاهر رُقي الإنسان وانصياعهُ لطاعة الرحمَن, وإذا كان الله لم يترك الحيوانات بلا كسوة, وجعل لها الوبر والأصواف والجلود والريش والصدف, وما إلى ذلك مما تتجمل به ويقيها بأسها وبأس الطبيعة التي تعيش فيها, كما جعل سبحانهُ الدواب ذات أربع أرجُل تتوارى عورتها أسفل بطنها وبين قوائمها ولا تبدو ظاهرة جلية للناظرين, فما بالك بالإنسان الذي هو خليفة الله الرحمَن, أليس هو أولى وأحق بالكسوة والتجمُل, وألم يجعل سبحانهُ للإنسان الذي يمشي واقفاً على رجلين عقلاً وحياءً يمنعهُ من كشف عورته التي لا يسترها سوى الكسوة واللباس.
وقد كان أول أدب أدبهُ الله لأول البشر آدم وحواء - عليهما السلام- مرتبط كما فصلنا بعدم نزع ما كساهما الله وستر عوراتهما به من اللباس والزينة.
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 27} الأعراف.
وإن الله يبغض التعري سواءً أكان من الرجل أو المرأة, وجعلهُ سبحانهُ سبباً في زوال النِعم, والهبوط من المقام الأعلى إلى الأدنى, وسلوكاً دالاً على خُلِق العبد ومدى ورعهِ وتقواه, فإنه لا يتعرى إنسان إلا وهو خاضعاً لوسواس الشيطان وغافلاً عن ذكر الرحمَن.
عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: {إياكم والتعري, فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط, وحين يُفضي الرجل إلى أهله, فاستحيوهم وأكرموهم} رواه الترمذي, وقال حديث غريب.
وحتى في حال الجِماع وخلوة الرجل بالمرأة, فإن عليهما أن يتخذا ستراً وغطاءً عن أعين الإنس والجآن, وأن لا يتكشفا ويلبثا ويباتا عُراةً لا يكسوهما سوى جلودهما, فلعلهُ يقتحم خلوتهما أحداً فلا يجدا أن يستترا, أو لعلهما وهما في حال لهوٍ وغفلة عن ذكر الله, أن تسترق الشياطين النظر إلى عوراتهما وتصيبهما بمس ٍ وأذى, أو لعلهما يُصابا بشيءٍ من التوعك والمرض, فإن الله لم يجعل لبني آدم ما يقيه بأس الطبيعة كما جعل للدواب والحيوانات.
عن عتبة بن عبد السلمي, أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: {إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين} (15). العيرين: الحِماريْن.
وقد أغلظ الله على من يتعرون من لباسهم وأخزاهم و وبخهم توبيخاً كبيراً, وإذا كان التعري ونزع اللباس سبباً في الخروج من الجنة, فإنهُ كذلك سبباً مُباشراً في المنع من دخولها والإبعاد عنها بُعْداً كبيراً.
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : {صنفان من أهل النار لم أرَهُما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رءوسهن كأسنمة البُخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}. قيل إنها مسيرة خمسمائة سنة .
ولما كانت المرأة ممثلة بأمنا حواء هي أول مُتلبس ٍ بفتنة نزع اللباس وداعياً إليها بعد إبليس, وسبباً في فتنة آدم وخروجهم من الجنة, فقد كان التشدد الإلهي في جنبها وتوعدها بالحرمان من الجنة أمراً لا بد منه.
عن محمد بن قيس, قال: (نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة ، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء ، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال : " ما نهاكما رَبُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " . قال : فقطعت حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما : ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ) [سورة الأعراف : 22]. لم أكلتها وقد نهيتك عنها ؟ قال : يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء : لم أطعمته ؟ قالت : أمرتني الحية. قال للحية : لم أمرتِها ؟ قالت : أمرني إبليس. قال : ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن في كلّ هلال ، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك ، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ} (16).
عن ابن عباس ، قال : {لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : حواء أمرتني! قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْهًا ، ولا تضع إلا كرها. قال : فرنَّت حواء عند ذلك ، فقيل لها : الرنّة عليك وعلى ولدك} (17). الرنة: الصيحة الحزينة عند البكاء.
ولما كان إبليس يجدُ مشقةً في فتنة آدم – عليه السلام- وجرهِ للمعصية, فقد عَمَد إلى إغراء حواء بالمعصية لعلمهِ بضعفها وأنها أقلُ حرصاً على الطاعة من زوجها, حتى إذا ما نجح في فتنتها استخدمها كورقة رابحة في زيادة الضغط على آدم وحملهِ على المعصية, لذا أُثِرَ أن النساء هُنَ حبائل الشيطان, وقال سعيد بن المسيب - رضي اللهُ عنه- : (ما أيِسَ إبليس من أحد إلا وأتاهُ من قِبل النساء) .
وكما كانت المرأة هي أول فتنة لأول البشر آدم –عليه السلام-, فإنهن كُن كذلك أول فتنة لأول وأكبر الأمم الكتابية السابقة بني إسرائيل, عن أبي سعيدٍ الخدري – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: {إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله مستخلفكم فيها, فينظر كيف تعملون, فاتقوا الدنيا واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} رواه مُسلم في الصحيح.
وبالقياس لما يتسبب به تبرج المرأة وتعريها من دعوة إلى الخطيئة واستحلال لمحارم الله, فقد نبه الله في شرائعه التي أرسل بها أنبياءه على وجوب التزام المرأة الحشمة والرزانة في ظاهرها وباطنها, واتخاذها من الألبسة ما تستر به زينتها وسائر جسدها, قال تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظنَ فروجهن ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها, وليضربن بخُمُرهنَ على جيوبهن, ولا يُبدين زينتهن إلا لبُعُولتهنَ..} [النور, 31].
وللأسف فقد فشا في هذه الأمة منذ فترة ليست بالقصيرة العُري ونزع لباس الدين والدُنيا, وها هي أمتنا آخذة في التدحرج نحو الهاوية, وإننا لا نجدُ أبناء الأمة وشعوبها يزدادون إلا تعرياً ونزعاً للباس الحياء والدين, ولا تزداد الأمة معهم بذلك إلا تفككاً وخُسراناً وانحطاطاً في سائر شؤونها, ولا بد لكل بداية من نهاية, وهاهي ملامح نهاية آخر أمم الله في الأرض تبدو أكثر جلاءً ووضوحاً يوماً بعد يوم, نسأل الله العافية وحسن الخِتام.
وفي ختام هذه الفقرة, فإن ابن آدم في حالة عُريهِ إن كان عديم الخجل والحياء من الناس فهذه مصيبة, ولكنهُ إذا كان عديم الحياء من ربهِ وبارئه فالمصيبة أعظمِ, عن معاوية القشيري: {قلت: يا نبي الله ! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قلت : يا رسول الله ! إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال : " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يراها " قال : قلت يا نبي الله ! إذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : " فالله أحق أن يستحيا منه من الناس " } حديث حسن صحيح (18).
مسائل ولطائف منوعة
* إذا كان آدم وحواء لم يريا عوراتهما ولم يعرفا أن لهما عورة إلا بعد إتيان الخطيئة, فكيف كانا يُخرجا فضلات طعامهم وشرابهم؟
إن هذه من الجُزئيات التي لم تتطرق إلى كيفيتها الروايات ولا يلزمنا الخوض بها, إنما أردت ذكرها تحسباً لأن تخطر ببال بعض القراء.
وكما جاء في الروايات فإن الله كان قد ستر عورات آدم وحواء بكساء من نور أو ظُفر أو غيره, ولما كان الله قد كساهم ذلك اللباس وأمرهما بعدم نزعه, فإنه سبحانهُ لا بُد أنهُ كفاهما الحاجة إلى نزعه وصرف عنهما شر ما قد يجدونه من غائط أو بول, تماماً كما كان قد تكفل لهما بطعامهما وشرابهما في تلك الجنة دون جُهدٍ أو عناء بجمعه.
ومن ناحيةٍ أخرى فأن أهل الجنة تكون فضلات طعامهم على هيئة عرق يخرج من تحت جلودهم ريحهُ أطيب من المسك, وهذا افتراض صحيح ولكن على أساس أن آدم وزوجه كانا في ذات الجنة التي وعد المتقون بعد يوم القيامة, ولكن كما ذكرت فإن حقيقة الجنة التي سكنها آدم وحواء أمرٌ مختلفٌ فيه, ولم يذكر الله من وصفها إلا أنها ذات عيش ٍ رغيد لا برد فيها ولا ظمأ ولا حرَ ولا جوع.
والأرجح هو أن الجنة التي سيغرس شجرها ويبني قصورها ويعطي مهر حُورها عباد الله بأعمالهم وجهادهم وصبرهم على مصائب الدهر, والتي سيدخلونها بعد ابتلاءاتٍ شديدة في حياتهم الدنيا وفي برزخ القبور ثم في يوم الحساب, بما تحملهُ هذه المراحل من مخاض ٍ عسير وتقلباتٍ شتى, ثم ليخلدوا فيها إلى أبد الآبدين, لا بُد أنها تختلف اختلافاً بائناً وكبيراً عن تلك الجنة المؤقتة التي دخلها آدم وحواء من باب إكرام الضيف, وهي جنة كما وصفها الرحمَن عرضها كعرض السماوات والأرض, فيها ما لا عينٌ رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
* ما هي الكلمات
قال تعالى: {فتلقى آدم من ربهِ كلماتٌ فتاب عليه. إنهُ هو التواب الرحيم 37} البقرة.
والكلمات التي أوحى الله بها إلى آدم –عليه السلام- لتكون لهُ نوراً وبيان هي قوله تعالى: {قالَ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرَجون 25} الأعراف. وهذه الكلمات الثلاثة تُمثل الخطوط الأساسية والعريضة لحياة آدم وذريتهُ القادمة على الأرض, وعلمهُ الله فيها الحياة والموت والنشور. وهكذا فإن توبة الله على آدم – عليه السلام- بعد معصيته هي تكليمهُ بالقول الإرشادي الذي ليس فيه سخطاً مُطلقاً أو رحمةً مُطلقة, وعلامات هذه التوبة تتمثل في إعطاء آدم – عليه السلام- عهد جديد, وحياة جديدة على الأرض وفق معايير وشروط واضحة ومختلفة عما كان عليه الحال في الجنة.
وسبب توبة الله على آدم –عليه السلام- وإعطاءه فرصة ثانية لإثبات طاعته وولائه لربه, هو أنه اعترف بخطئه واسترجع, قال تعالى:{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَ من الخاسرين 23} الأعراف.
قال أبو جعفر الطبري: [وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن آدم وحواء فيما أجاباه به ، واعترافِهما على أنفسهما بالذنب ، ومسألتهما إياه المغفرة منه والرحمة ، خلاف جواب اللعين إبليس إياه.
ومعنى قوله : (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) ، قال : آدم وحواء لربهما : يا ربنا ، فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك ، وبطاعتنا عدوَّنا وعدوَّك ، فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه ، من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها (وإن لم تغفر لنا) ، يقول : وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا ، وتترك فضيحتنا به بعقوبتك إيانا عليه " وترحمنا " ، بتعطفك علينا ، وتركك أخذنا به (لنكونن من الخاسرين) ، يعني : لنكونن من الهالكين].
ولكن توبة الله على عبده ليست فقط بالاستغفار والكلام, وإنما لها ثمن وقُربان لا بد أن يُدفع لقبولها, وكان الثمن الذي دفعهُ آدم وزوجه هو خروجهما من الجنة وهبوطهما إلى الأرض, وقضاء الله عليهما بالموت في الأرض, ثم بالخروج منها بعد الموت للحساب, وكل هذه الأشياء ما كانت لتقع لهما لو أنهُما لزما أمر الله ولم يأكلا من الشجرة.
ثم أوحى الله إلى آدم دستوره الجديد ولذريتهُ أجمعين, والمتضمن سبيل الخروج من الشقاء إلى النعيم, وأنهُ لا يخْلُد في العذاب والجحيم سوى الكافرين والمُكذبين من أتباع إبليس اللعين, قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً, فإما يأتينكم من هُدىً فمن تَبِعَ هُداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون 38 والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 39} البقرة.
وإن القرآن يُفسر بعضهُ بعضاً, وإن قول الله تعالى في الآيتين رقم 36 من سورة البقرة و24 من سورة الأعراف متشابه تماماً باللفظ : {اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو, ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين}.
والآية التالية من سورة البقرة قال الله فيها : {فتلقى آدم من ربهِ كلماتٌ فتاب عليه. إنهُ هو التواب الرحيم 37}, والآية التالية من سورة الأعراف فيها قول الله عز وجل: {قالَ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرَجون 25}, وهذه هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه والمُشار إليها في الآية 37, وما جاء من بيان في الآيتين 38 و39 من سورة البقرة هو تتمة هذه الكلمات.
* قال تعالى :{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31 قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32 قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ 33} سورة البقرة .
لقد اختلف أهل العلم في نبوة آدم –عليه السلام- وعصمته, ولا أريد الخوض في تفصيل هذه المسألة ها هنا, ولكن كفى بأن آدم – عليه السلام- هو أول الخَلق ِ أجمعين, وهو الذي علمهُ الله الأسماء وخرت لهُ الملائكة ساجدين, وهو الذي اسكنهُ الله وزوجه جنة النعيم, وكتب عليه ذنبهُ قبل أن يخلقهُ بأربعين, وهو أول خليفةً في الأرض, وأول مُسْتشفَع ٍ في يوم الدين.
قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل ٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً 33} الفرقان.
أحسن تفسيراً: أصدق بياناً وتفصيلاً.
وفي ختام هذا البحث, أرجو أن أكون قد وُفقت إلى شرح ٍ وافي وشافي يفُسر حقيقة الخطيئة التي ارتكبها أبوانا آدم وحواء – عليهما السلام- وأُخرجا من الجنة بسببها,
وأعتذر عن أي قصور أو تقصير أو خطأ خطتهُ يميني رغماً عني ودون قصدٍ مني.
وإن ما ذكرتهُ في هذا البحث من حقائق وتعليقات حول شجرة الخطيئة هو اجتهاد يحتمل الخطأ والصواب, ولولا أنني وجدت فوائد معرفية مترتبة على البحث في هذه المسألة, لما تحملت عناء الخوض فيها وتدوينها ونقلها للناس, خاصة ً وأنني بالكاد أجد السويعات من الأوقات لممارسة هوايتي المفضلة في البحث والتدوين في مسائل الدين, نظراً للارتباطات والانشغالات المتزايدة في وظائف الدنيا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على خير ولد آدم نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وأحبابه أجمعين.
فكرة وإعداد: م. وليد أحمد القراعين
نُشر لأول مرة في تاريخ 29-7-2011
الهوامش:
1- تفسير الآية 36 من سورة البقرة. الخبر 743 من كتاب: جامع البيان في تأويل القرآن, المشهور ڊ (تفسير الطبري), تحقيق: أحمد محمد شاكر.
2- قال الالباني: حديث صحيح.
3- تفسير الطبري: الخبر 14408. قال ابن كثير في تفسيره 3 : 460 : (( رواه ابن جرير بسند صحيح إليه )) .
4- تفسير الطبري: الخبر 14398. ذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 458 ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب موقوفًا غير مرفوع . ثم قال ابن كثير : (( وقد رواه ابن جرير وابن مردويه ، من طرق ، عن الحسن عن أبي كعب مرفوعًا ، والموقوف أصح إسنادًا )) . وهو كما قال .
5- تفسير الطبري: الخبر 14453.
6- تفسير الطبري: تفسير الآية 35 من سورة البقرة.
7- ذكرهُ الألباني في (السلسلة الصحيحة).
8- لسان العرب.
9- أخرجهُ ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعاً.
10- تفسير الطبري: الخبر 781 تفسير الآية 37 من سورة البقرة. (وقد صح عن أبي هريرة في معنى هذه الرواية حديث يدل على أن الله كتب على آدم الخطيئة قبل خلقهِ, سأذكرها في فقرةٍ لاحقة).
11- تفسير الطبري: الخبر 746.
12- تفسير الطبري: الخبر 747.
13- تفسير الطبري: الخبر 745.
14- تفسير الطبري: الخبر 14399.
15- رواه الشوكاني في (نيل الأوطار) وقال حديثٌ صحيح.
16- تفسير الطبري: الخبر 752.
17- تفسير الطبري: الخبر 14410.
18- رواه الترمذي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم من الأئمة.
المراجع:
- كتاب: جامع البيان في تأويل القرآن, المشهور ڊ (تفسير الطبري), تحقيق: أحمد محمد شاكر.
- كتاب: مختصر تفسير ابن كثير, للصابوني.
- موقع الدُرر السُنية, (الموسوعة الحديثية).